الرجل الذي مات واقفاً
كانت (16) رصاصة كفيلة بإنهاء مسيرة قصيرة لرجل نذر نفسه من أجل الحقيقة
وعندما قتل مالكوم إكس عرف الجميع الحقيقة وسعوا من أجلها وكان موته الشرارة التي ولدت الانفجار
ولد مالكوم في (6 ذي القعدة 1343هـ= 29 مايو 1925م)، وكان أبوه "أورلي ليتل" قسيسا أسود من أتباع "ماركوس كافي" الذي أنشأ جمعية بنيويورك ونادى بصفاء الجنس الأسود وعودته إلى أرض أجداده في أفريقيا. أما أمه فكانت من جزر الهند الغربية لكن لم تكن لها لهجة الزنوج، وكان مالكوم المولود السابع في الأسرة؛ فقد وضعته أمه وعمرها ثمانية وعشرون عاما، وكانت العنصرية في ذلك الوقت في الولايات المتحدة ما زالت على أشدها، وكان الزنجي الناجح في المدينة التي يعيش فيها مالكوم هو ماسح الأحذية أو البواب!!
كان أبوه حريصا على اصطحابه معه إلى الكنيسة في مدينة "لانسينغ" حيث كانت تعيش أسرته على ما يجمعه الأب من الكنائس ، وكان يحضر مع أبيه اجتماعاته السياسية في "جمعية التقدم الزنجية" التي تكثر خلالها الشعارات المعادية للبيض، وكان الأب يختم هذه الاجتماعات بقوله: إلى الأمام أيها الجنس الجبّار، بوسعك أن تحقق المعجزات. وكان أبوه يحبه للون بشرته الفاتح قليلا عنه، أما أمه فكانت تقسو عليه لذات السبب، وتقول له: "اخرج إلى الشمس ودعها تمسح عنك هذا الشحوب".
وقد التحق بالمدرسة وهو في الخامسة من عمره، وكانت تبعد عن مدينته ثمانية أميال، وكان هو وعائلته الزنوج الوحيدين بالمدينة؛ لذا كان البيض يطلقون عليه الزنجي أو الأسود، حتى ظن مالكوم أن هذه الصفات جزء من اسمه.
صورة لأبويه
وكان الفتى الصغير عندما يعود من مدرسته يصرخ مطالبا بالطعام، ويصرخ ليحصل على ما يريد، ويقول في ذلك: لقد تعلمت باكرا أن الحق لا يُعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد.
وعندما بلغ مالكوم سن السادسة قتلت جماعة عنصرية بيضاء أباه وهشمت رأسه؛ فكانت صدمة كبيرة للأسرة وبخاصة الأم التي أصبحت أرملة وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها وتعول ثمانية أطفال، فترك بعض الأبناء دراستهم، وعملت الأم خادمة في بعض بيوت البيض، لكنها كانت تُطرد بعد فترة قصيرة لأسباب عنصرية.
وتردت أحوال الأسرة، وكانت الأم ترفض وتأبى أن تأخذ الصدقات من مكتب المساعدة الاجتماعية؛ حتى تحافظ على الشيء الوحيد الذي يمتلكونه وهو كرامتهم، غير أن قسوة الفقر سنة 1934 جعلت مكتب المساعدة يتدخل في حياتهم، وكان الموظف الأبيض فيه يحرّض الأبناء على أمهم التي تدهورت حالتها النفسية وأصيبت بمرض عقلي سنة 1937، وأودعت في المستشفى لمدة 26 عاما.
وأصبح الأطفال السود أطفال الدولة البيضاء، وتحكّم الأبيض في الأسود بمقتضى القانون. وتردت أخلاق مالكوم، وعاش حياة التسكع والتطفل والسرقة؛ ولذلك فُصل من المدرسة وهو في سن السادسة عشرة، ثم أُلحق بسجن الأحداث.
بوادر العنصرية
كان مالكوم شابا يافعا قوي البنية، وكانت نظرات البيض المعجَبة بقوته تشعره بأنه ليس إنسانا بل حيوانا لا شعور له ولا إدراك، وكان بعض البيض يعاملونه معاملة حسنة، غير أن ذلك لم يكن كافيا للقضاء على بذور الكراهية والعنصرية في نفس الشاب الصغير؛ لذلك يقول: "إن حسن المعاملة لا تعني شيئا ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إليّ كما ينظر لنفسه، وعندما تتوغل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعا بأنه أفضل مني".
وتردد مالكوم على المدرسة الثانوية وهو في سجن الإصلاح، وكانت صفة الزنجي تلاحقه كظله، وشارك في الأنشطة الثقافية والرياضية بالمدرسة، وكانت صيحات الجمهور في الملعب له: "يا زنجي يا صدئ" تلاحقه في الأنشطة المختلفة، وأظهر الشاب تفوقا في التاريخ واللغة الإنجليزية.
الأسود.. والمستقبل
وفي عام 1940م رحل إلى أقاربه في بوسطن، وتعرف هناك على مجتمعات السود، ورأى أحوالهم الجيدة نسبيا هناك، وبعد عودته لاحظ الجميع التغير الذي طرأ عليه، غير أنه احتفظ بتفوقه الدراسي، وفي نهاية المرحلة الثانوية طلب مستر "ستراوسكي" من طلابه أن يتحدثوا عن أمنياتهم في المستقبل، وتمنى مالكوم أن يصبح محاميا، غير أن ستراوسكي نصحه ألا يفكر في المحاماة لأنه زنجي وألا يحلم بالمستحيل؛ لأن المحاماة مهنة غير واقعية له، وأن عليه أن يعمل نجارا، وكانت كلمات الأستاذ ذات مرارة وقسوة على وجدان الشاب؛ لأن الأستاذ شجّع جميع الطلاب على ما تمنوه إلا صاحب اللون الأسود؛ لأنه في نظره لم يكن مؤهلا لما يريد.
وبعد انتهاء المرحلة الثانوية قصد مالكوم بوسطن وأخذته الحياة في مجرى جديد، وأصيب بنوع من الانبهار في المدينة الجميلة، وهناك انغمس في حياة اللهو والمجون، وسعى للتخلص من مظهره القوي، وتحمل آلام تغيير تسريحة شعره حتى يصبح ناعما، وأدرك أن السود لو أنفقوا من الوقت في تنمية عقولهم ما ينفقونه في تليين شعورهم لتغير حالهم إلى الأفضل.
ثم انتقل إلى نيويورك للعمل بها في السكك الحديدية، وكان عمره واحدا وعشرين عاما، وكانت نيويورك بالنسبة له جنة، وتنقل بين عدة أعمال، منها أن يعمل بائعا متجولا، وتعلم البند الأول في هذه المهنة وهو ألا يثق بأحد إلا بعد التأكد الشديد منه.
وعاش فترة الحرب العالمية الثانية، وشاهد ما ولدته الحرب من فساد خلقي واجتماعي وانغمس هو نفسه في هذا الفساد، وغاص في أنواع الجرائم المختلفة من سرقة ودعارة وفجور، وعاش خمس سنوات في ظلام دامس وغفلة شديدة، وفي أثناء تلك الفترة أُعفي من الخدمة العسكرية؛ لأنه صرح من قبيل الخديعة أنه يريد إنشاء جيش زنجي.
وللحديث بقية إن شاء الله